همسة: (العفّة قيمة سماوية لا يدركها إلا الشرفاء).
حـوريـة الجنـة
استيقظ على عتمة إلا من بصيص نور يغمر المكان من شق صغير في سقف الحجرة، تلفت حوله مستحضراً ذلك الكابوس المرعب، شعر بالعطش فبحث بمشقة عن ماء فما وجد سوى صفيحة معدنية مهترئة فيها النزر القليل، شربها بنهم رغم تعكرها، اتكأ على الجدار منهاراً فالتعذيب الذي لقيه نهاراً أفقده الوعي وترك أطرافه دامية ووجه متورم من أثر اللكمات القاسية التي تلقاها من قبضات عملاقة، لم يَرَ وجوههم إنما حفظ أجسامهم الضخمة التي فاحت منها نتانة أثارت اشمئزازه، والصوت المكثف يلتقطه من شبح ينتصف الحجرة متخفياً بدخان سيجاره يظهر بشكل واضح عندما تختفي الأذرع الممتدة لتعذيبه، يسأله:
- من هو قائد المجموعة؟ اعترف.
- أقسم بالله العظيم إنها تهمة كاذبة فأنا إنسان لا يد لي في هذه الأمور.
الصرخة تقلعه من جذوره:
- كذاب، فقد أثبت رجالنا المخلصون أنك كنت مجتمعاً مع مجموعة مخربة.
- أنا بريء، كيف تريدني أن أعترف بشيء لم أفعله أبداً.
لكمة قوية تدوخه فيشعر بدوار وأوشك أن يسقط إلى الأرض لكن كفين قويتين تتلقفانه.
يرش رذاذ الماء البارد على وجهه:
- أفق لتعترف بالحقيقة.
قضى (عماد) أيامه خلف قضبان الظلم يصحو نهاراً على التحقيق الوحشي ينهش لحمه ويسلخ جلده بكرباج الجور الغاشم.
ما ذنبك يا عماد؟ ما هي جريرتك؟
شاب في مقتبل العمر له من الوسامة والجاذبية ما أوقعه في براثن امرأة جبّارة ذات فتنة ونفوذ، تذكر يا عماد نبي الله يوسف (عليه السلام) حينما استحسن كرامة السجن على الحرية المبتذلة، لونه القمحي المعجون بحمرة المغيب وعينان فتاكتان قهرتا امرأة متزوجة اعترضته حينما توظف في شركة زوجها خرافية الثراء، لمحته واقفاً إلى جانب زوجها الكهل الذي تراخى جسده وانحنى عوده فكان شبح رجل، يتباحثان في شؤون العمل، كان مطرقاً بمهابة، صوته الأجش ينساب كتيار دافئ فوق صقيع قلبها، جسده المفتول يتفجر قوة وشباباً، عنفوان الرجولة يتدفق من نظرته المتنمرة، حينما دخلت استأذنها وخرج منحني الرأس، الجاذبية الممغنطة فيه تركت إشعاعه متوهجاً برغم غيابه.
سألت زوجها وهي تتبع عماد بنظراتها:
- أليس هذا الشاب بن الحاج عبدالله؟
رد زوجها رغم انهماكه في قراءة التقرير:
- إنه (عماد حسين) صائغ برامج توظف قبل شهر.
استحمقت وتظاهرت بعدم الاكتراث.
رفع زوجها عينيه عن الملف ثم تساءل:
- نورتيني بزيارتك.
طوقته بذراعيها ممهدة الطريق:
- أعجبتني سيارة (بي أم) جديدة ذات لون أحمر فلم أصبر مررت عليك لأخبرك عنها.
ولم يجادلها فرضاها غايته.
- حاضر ستكون ملك يديكِ.
قبلته واتخذت لهجتها الجدية:
- إذن لن أعطلك سأسبقك إلى البيت.
فور أن خرجت من مكتب زوجها سألت أحد العاملين عن قسم الكمبيوتر فقيل لها في الطابق الثالث، وهرعت من فورها إلى المكان الذي اكتظ بأكبر نسبة من الموظفين تحرجت بعض الشيء فكلهم يعرف مدام (نور) زوجة مالك الإمبراطورية المالية وأجمل سيدة مجتمع عرفها الناس، مطمع الكاميرات المتعطشة إلى الجمال المدهش والأناقة الباريسية الأخاذة، ترصدها الصحافة أينما حلّت أو ذهبت، ذات مشية ملكية تفيض أنوثة وطلة مهيبة تدير الأعناق.
حبست الموظفات أنفاسهن انبهاراً حينما خطرت أمامهن بجمالها الباطش ورونقها المتجدد، من يصدّق أنها على مشارف الأربعين، فالخصر منحوت والبطن ضامر والوجه قمري في استدارة طفولية بديعة، تهافتوا حولها بحفاوة فأظهرت التقدير والثناء وبررت حضورها المفاجئ بحاجتها إلى صائغ كمبيوتر مميز يستطيع أن يبرمج جهاز الكمبيوتر الجديد الذي اشتراه ابنها.
تسابقوا لتقديم هذه الخدمة حباً وكرامة بحماس مبطن بنفاق لكنها اختارت عماد.
انبرى أحدهم بشيء من الحسد:
- إنه موظف جديد لا خبرة له.
وبررت:
- لكنها فرصة ليثبت مهارته!
طأطأوا رؤوسهم أمام صاحبة الملك متظاهرين بالطاعة.
وبنبرة رصينة فيها من الوقار قالت موجهة حديثها لعماد:
- أستاذ عماد، سنكون بانتظارك غداً في الساعة التاسعة صباحاً.
شعر عماد بالزهو والافتخار أمام زملائه الذين تغامزوا فيما بينهم بإشارات ذات مقاصد سيئة.
صوت الحارس الواقف عند زنزانته:
- العشاء.
- تنهد عماد بحرقة فهو يعرف أنهم يأتون بالعشاء كل ليلة ليتقوى جسده على التعذيب في النهار.
- لا أريد العشاء.
زمجر الرجل فكان لصدى صوته دوياً مرعباً:
- وهل ستبت على الجوع كما فعلت في الليلتين السابقتين؟
- أرجوك لا أريد هذا العشاء، الخبز اليابس المعجون بالحصى والرمل سبب لي آلاماً وتقرحات في المعدة، أعطني ماءاً لأتوضأ.
اختفى شبح الرجل وقع أقدامه وهي تبتعد يشعره بالاطمئنان.. ورجع إلى ذاكرته ليسترجع الحدث والصباح الذي أشرق في حياته بنكهة مختلفة حينما ذهب إلى (مدام نور) استقبلته بلهفة واحترام شفّ عن امرأة متمرسة بطقوس الضيافة، جلس في الصالون المطل على حديقة فيحاء تتوسطها نافورة تمثل جسد امرأة عارية تحمل على كتفها دلو ينسكب منه الماء، كانت تعيش طرازاً ملكياً لم يعرفه إلا في القصص الخيالية، فهو شاب بسيط من أسرة متدينة تحفظ تقاليدها الصارمة برغم تبدل أطوار المجتمعات، شاغلته بأحاديث خاصة لا علاقة لها بالعمل وكان ينتهز الفرصة بعد كل وقفة ليسألها محرجاً عن جهاز الكمبيوتر كي يؤدي مهمته وينصرف، لكنها تبرر أن ابنها قفل باب الحجرة ولا تدري أين وضع المفتاح فأبقته حتى عودة ابنها، شرب (عماد) العصير المثلج وهو منكمش غائص في مقعده- .
عرضت عليه أن يدربها على برامج الكمبيوتر وإذا أمكن توظيفه في مكتبها بعد الظهر لأنها كما أخبرته بصدد مشروع جديد، لم يستطع أن يرفض لها طلباً، لكنها استحلفته أن يتكتم هذا السر لئلا يحسده الموظفون في الشركة! وستضاعف أجره بالتأكيد، وقد ظن عماد أن صاحب الشركة على علم بمشروع زوجته فكان راضياً مستسلماً للقرار الجديد ولم يفطن أبداً إلى نواياها وما تضمره في سريرتها رغم الإشارات الواضحة التي تمهد له الطريق، لأن جل تركيزه كان في عمله وفي مضاعفة راتبه لكي يتسنى له أن يتزوج ويبني أسرة، وقرر أن يجتهد ويبذل ما في وسعه ليكون على مستوى عالٍ من الكفاءة حتى كان ذلك اليوم الذي خلا فيه مكتبها من السكرتيرة وبعض الموظفين استفردت به فغلقت الباب وأخفت المفتاح في الدرج وهي الفرصة السانحة لمحاصرته.. أقبلت عليه في مكتبه بعد أن كشفت عن مواطن فتنتها.
وبصوت يختلج:
- عماد.
ارتبك، وجدها متأهبة، تنتفض، يتضرج وجهها حمرة، تفترسه بعينيها الوقحتين.
- منذ رأيتك وأنا أتعذب.
وقف مذعوراً:
- معذرة سيدتي سأرحل في الحال فقد انتهيت من عملي.
هاجمته وهي تشده بقوة وأنفاسها تلهث:
- لا.. أرجوك لا تتركني، اجلس معي سأعطيك المال والجاه والمنصب، فقط أريد أن تبقى لي صديقاً حميماً.
ابتلع ريقه واضطرب:
- سيدتي أرجوكِ.
وشعر بفحيحها المتوهج كاللهب فوق وجهها الظالم الحسن والرغبة الشيطانية تعمتل داخلها، اختلت رؤيته وتذبذبت إرادته، إنه المأزق الذي يجعله على مفترق طريق، مشى بخطى مرتبكة نحو الباب فوجده مغلقاً.. تذكر يا عماد (يوسف الصديق) عندما غلّقت زليخا الأبواب وأخلت القصر لتهيئ مناخ الفاحشة، قاوم يا عماد كما قاوم يوسف امرأة العزيز أجمل نساء زمانها، لكنه نبي معصوم أما أنت فشاب محروم وقعت بين كفيك أشهى تفاحة فلا تفوت الفرصة، وتستبد (نور) في غوايتها المحترفة مستجدية استجابته بمذلة، وكاد أن يجن ويفقد صوابه لكنه أغمض عينيه متخيلاً العجوز (أم عمران) بوجهها المتغضن ويديها المبتورتين وفما الضامر كانت تشحت في طرقات الحي، تتفاوت الصورتين ويتناقض المشهدين فترتبك أحاسيسه وينطفئ السعار كلما اشتعل.. فاضطر أن يفك رباط حزامه وهو يلهث، ابتسمت منتشية بالظفر، ها هو يستعد، استرخت وقد فترت عينيها، لكنه خيب أملها حينما رفع الحزام ليسوطها ويقهر شيطانه ويهزم النمرة الضارية.. انتفضت قواه الخيّرة فتراجعت نور خائفة مذعورة تغطي وجهها بكفيها لتحميه من ضرباته القاسية وهي تصرخ:
- أيها المجرم.. توقف.. توقف عن الضرب.
وكأنه يخوض أشرس معركة في حياته:
- افتحي الباب وإلا قتلتك في الحال.
ضمرت فتنتها وانكمشت كفأرة حقيرة ملطخة بالوحل تمشي نحو الباب وهي تتعثر حوفاً، فتحته فهرب من قبضتها الناعمة ومن شباكها العفن الذي سيستدرجه إلى قاع الخطيئة الآسن.
لكنه دفع ثمن عفته باهظاً، انتقمت منه نور شر انتقام، حينما لفقت له تهمة انتساب إلى مجموعة مخربة وكان مدير السجن متواطئاً في خسة بعد أن قبض الثمن مقدماً، قبض على عماد وهو يصلي الفجر صائماً شاكراً ربه أن نجاه من هذا البلاء.
اقترب موعد صلاة الليل وتهجده في وقت السحر، الساعة الغريزية داخله تحدد له مسارات الزمن بدقة، كان يتقوى بالنبي يوسف (عليه السلام) ويتعظ بمحنته وبلاءه.
نادى الحارس:
- يا عم، أريد الماء لأتوضأ.
لكن الصوت أرجعه الصدى، تيمم في الحال واستقبل القبلة، فجأة شع نور أمامه وارتسمت في الأثير هالة على هيئة قرص كبير الحجم تقلص بالتدريج حتى انحسر عن وجه أبيض كاللؤلؤ، امرأة تخطف الأبصار بجمالها، خفرة، ذات ألق بديع وجسد ملائكي يفيض طهر ونقاء.
ارتجف حتى كاد أن يسقط مغشياً عليه، لكن المرأة الجالسة أمامه أخذت تناجيه بصوت كقيثارة الملائكة.
- أنا حبيبتك الموعودة في الجنة، أنا يا حبيبي أنتظرك بشوق حتى تنسلخ عن جسدك المادي لترجع لي محض روح.
مسدت رأسه وجسده فاسترد قوته وعافيته.
حدّق بها مبهوراً:
- من أنتِ؟
- أنا حورية الجنة جئت لأسليك في وحدتك.
تنهد:
- وكيف وجدتِ الدنيا؟
- الدنيا تغر الأحمق الجاهل الذي هجر نعيم الآخرة من أجل لذة زائلة.
- ومن أنا لتحبيني؟
- نحن حوريات الجنة لن نتزوج إلا الرجل الذي تعفف عن الحرام وزهد فتنة النساء في الدنيا وترمض صبراً وجهاداً.
اغرورقت عيناه بالدموع حينما تذكر غواية نور التي كادت أن تجره إلى أسوأ مصير.
- أسألك، وماذا لي في الجنة؟
- في انتظارك يا عماد باقة من الحور العين، ونهر من العسل واللبن، وطعام له مذاق لا يخطر على قلب بشر، أبشر فالسعادة السرمدية والحياة الأبدية هناك لا في الدنيا.
خفق قلب عماد فخرّ ساجداً شاكراً ربه داعياً يتضرع، يا رب حبك هو مبتغاي ورجائي، وما أكرمتني من نعيم فهو من فيض نعمائك وآلائك.
عانقته الحورية عناقاً حاراً فوهبت له قوة أ ربعين رجل فتفجرت ينابيع الحيوية والعنفوان وتسورت حوله هالة تتكسر عليها ضرباتهم الماحقة، فكلما هموا بتعذيبه يتطوق بغلاف غير مرئي لكنه متماسك كالفولاذ.. خارت قواهم فجعلوا يتهامسون في دهشة:
- من أين لك تلك القوة الخارقة؟!
وعكف على قراءة القرآن الكريم والمناجاة الليلية، يارب وهبتني هذه الكرامة ثمناً لصبري وجهاد نفسي فشكراً لك يا أرحم الرحمين.
وينتظر النور البهي كلما اشتاق إليها
- حوريتي أين أنتِ؟
إن السجن أحب إليّ من قصورهم، وأنتِ أحب إليّ من نسائهم الملوثات، فمعك السجن جنة من السعادة، وتفترش الحورية جناحيها النورانيين في حجرته وتجلس بين يديه مترعة بنضارة الجنة ومعطرة بريحانها العبق.
أسرك يا زوجي المنتظر أنك آتٍ وستزفك الملائكة لي عن قريب لنعيش في روضة من رياض الجنة.
رمقها بنظرة متسائلة:
- أجل حبيبي سيدسون لك السم في الطعام وستموت في ظرف ثلاثة أيام وتلحق بي في عشنا البرزخي حيث مستقرنا حتى يوم القيامة.
ومن ثم..
قيدت القضية أن السجين مات منتحراً!